| ]


إن تونس التي عاشت 14 قرنا كاملة تحت راية الإسلام العظيم و أنواره المشرقة و مبادئه الإنسانية الخالدة و قيمه الرّوحيّة الجميلة و أخلاقه الرّفيعة المثلى و أهدافه الرّائعة العليا لهي مدينة لهذا الدّين العزيز الشّامخ في كماله و الرّائع في جماله و لأصحابه الفاتحين الذين تجنّدوا لنشره في ربوع بلادنا و في سائر بلاد العالم قادمين من الجزيرة العربيّة مهد الرّسالات و موطن الأنبياء عليهم الصلاة و السّلام و منطلق الدّعوة إلى الله و إلى هذا الدّين، تاركين ديارهم و أموالهم في مكّة و المدينة و اليمن و الشّام من أجل هذا الدّين، مضحين في سبيل نشره بالغالي و النّفيس، مجاهدين في سبيل الله بأموالهم و أنفسهم و لم يكن هدفهم في ذلك كلّه طلب دنيا أو تحقيق مكاسب مادّية ضيقة أو طمع في جاه و سلطان، بل كانت غايتهم أسمى من ذلك بكثير كانت غايتهم إعلاء كلمة الله في الأرض و نيل مرضاته و دخول جنّته التي وعدهم بها يوم القيامة متمثلين قول الله عزّ و جلّ في كتابه العزيز.

" يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، تؤمنون بالله و رسوله و تجاهدون في سبيل الله بأموالكم و أنفسكم، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون* يغفر لكم ذنوبكم و يدخلكم جنّات تجري من تحتها الأنهار و مساكن طيّبة من جنّات عدن ذلك الفوز العظيم و أخرى تحبّونها نصر من الله و فتح قريب و بشّر المؤمنين" الآيات 10-11-12-13 من سورة الصّف.



و السّر في هذا القدر الهائل من التّضحيات التي قدّمها الصّحابة الأبرار و من جاء بعدهم هو عظمة هذا الدّين و روعته، إذ بقدر ما يكون الشيء عظيما يكون المهر أو المقابل عظيما كذلك فالإسلام في حقيقته جاء ليحطّم كافّة الأغلال التي كبّلت الإنسانية منذ عهود سحيقة، أغلال الظّلم و الفساد و الاستبداد و الاستغلال الاجتماعي و الاقتصادي، أغلال الرّق و الوثنية و الاستعباد و التّمييز و سوء الأخلاق، لقد جاء الإسلام ليحرّر الشعوب و الإنسانية كلّها من كلّ هذه القيود و من كلّ الآلام و العذابات التي سببتها الأنظمة القبليّة الظالمة، و من كلّ مشاعر الخوف و الرّعب و الإرهاب، و من كلّ مظاهر الحيف و النّقص و الغبن و الحرمان، جاء ليحرّر عقولها و قلوبها من الأوهام و الخرافات و الأساطير و الدّجل و البهتان و يعلنها عاليّة مدوّيّة أن لا إلاه إلا الله، بمعنى تحطيم جميع الآلهة المزيفة التي تستعبد النّاس و ترتهن عقولهم و تستغل جهلهم و تأكل أموالهم بالباطل و تستخف بمشاعرهم و تطحنهم طحنا و تسحقهم سحقا من ملوك و أمراء و أصحاب نفوذ و زعماء قبائل و تماثيل حجريّة يقع صنعها و بيعها لكسب المال على أنّها آلهة، و عقائد و فلسفات من صنع البشر، أي من وضع الإنسان لإستغلال أخيه الإنسان، لقد جاء الإسلام ليرسي عقيدة التوحيد في القلوب بمعنى الإيمان اليقيني و الاعتقاد الرّاسخ في وجود إلاه واحد لهذا الكون، إلاه عظيم بديع، هو الذي خلق الكون و نظمه و جعل له سننا و قوانين غاية في الدّقة و الإبداع، و هو الذي خلق الإنسان و صوره في أحسن صورة و عدّله في أحسن تقويم و جهزه بكل ما يحتاجه من وسائل العيش من جسم و أطراف و سمع و بصر و ميّزه على سائر المخلوقات بالعقل و التّفكير و الإرادة و القدرة و التّدبير و الاختيار قال تعالى : " في شأنكم يا بني الإنسان " و لقد كرّمنا بني آدم و حملناهم في البرّ و البحر و رزقناهم من الطيبات و فضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا". إنّ هذا الالاه الحكيم و اللّطيف الخبير و الذي يتصرف في ملكه كما يشاء و الذي لا يشك في وجوده عاقل أو عالم يقول لنا في كتابه العزيز ما معناه : أنا الذي خلقتكم و انا الذي يعلم ما يصلح لكم من شرائع و أحكام و قوانين و أخلاق، فآمنوا بي و برسولي و أعملوا بما أمرتكم به تسعدوا في الدّنيا و الآخرة و إن لم تؤمنوا بي و لم تتبعوا هذا الدّين و اتبعتم أهواءكم و فضّلتم الضّلال على الحق فأيقنوا بالشّقاء و الخسران و العذاب في الدنيا و الآخرة و ممّا قاله ربّنا تبارك و تعالى : " ألا يعلم من خلق و هو اللطيف الخبير " 14 – سورة الملك

" و العصر إن الإنسان لفي خسر " إلا الذين آمنوا و عملوا الصّالحات و تواصلوا بالحق و تواصلوا بالصّبر " سورة العصر.

" أفحكم الجاهليّة يبغون، و من أحسن من الله حكما لقوم يوقنون " الآية 50 سورة المائدة

" وعد الله الذين آمنوا و عملوا الصّالحات لهم مغفرة و أجر عظيم * و الذين كفروا و كذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم "9 المائدة "

" قد جاءكم من الله نور و كتاب مبين " 15 المائدة

" و تعاونوا على البرّ و التّقوى و لا تعاونوا على الإثم و العدوان "

" إنّ الله يأمر بالعدل و الإحسان و إيتاء ذي القربى و ينهى عن الفحشاء و المنكر و البغي يعظكم لعلكم تذكرون "

و يقول في حديث قدسي : " يا عبادي إنّي حرّمت الظّلم على نفسي و جعلته بينكم محرّما فلا تضالموا " و هنا يقصد الظّلم بجميع أنواعه و أشكاله.

و يقول رسولنا الكريم " الناس سواسية كأسنان المشط "

" لا فضل لعربي على أعجمي و لا لأبيض على أسود إلا بالتقوى "

إنّ مثل هذه الآيات و الأحاديث من ديننا الحنيف لتصبّ في مصب واحد و هو تحرير الإنسان و جعله عبدا لله وحده يمشي بنوره و يعيش على هديه و يحكّم دينه و شريعته في كل أموره الدّنيوية و الأخرودية راضيا مختارا مطمئنا شاعرا بالأمن و السّلام و الطمأنينة و هنا تظهر بل و تتجسّد الحرّية الحقيقية و السّعادة الحقيقية و الإنسانية الحقيقية، عندما نكون مؤمنين بالاه واحد، إخوة بالإيمان و الإسلام لا يتحكّم فينا مخلوق و لا يتسلّط علينا حاكم أو ظالم أو مستبد باسم الوطنية أو القومية أو الشيوعية أو العولمة أو قانون مكافحة الإرهاب.

إنّ كلّ هذه الفلسفات الوضعيّة قديمها و حديثها و ما سيأتي بعدها محكوم عليها بالفشل و لقد أثبتت فشلها عندما جرّبت و لم ينتج عنها سوى الكوارث و الدّمار و الخراب و ملايين الضّحايا من البشر في حروب داميّة و مجازر رهيبة، لأن أصحاب هذه الفلسفات أرادوا تطبيقها و فرضها على النّاس و الشعوب بقوّة الحديد و النّار عكس الإسلام الذي يغزو القلوب بدون حروب، تستوي في ذلك الرأسمالية المتوحشة و الصّهيونية المجرمة و الشّيوعية الفتّاكة و الاشتراكية الفاشلة و القومية الضّيقة، و كلها إلى فناء و زوال لأنّها تخالف الطبيعة و الفطرة البشرية، و من يعارضني في هذا فليأتني بعكس ذلك و بالأدلة و التّجارب لا بالكلام الرّنّان و التّحامل الفارغ من كلّ منطق، و من غرائب الأشياء أن بقايا اللائكية و فلول اليسار في بلادنا رغم احتضارهما و موتهما السّريري ما زالوا ينادون بتلك النّظريات الميتة واقعيا و يوهمون أنفسهم بأنّهم قادرون على إحيائها، و لست أدري هل هم شاعرون أم غير شاعرين بأن الزمن قد تجاوزهم و أن الأفكار التي كانوا يرونها وردية و برّاقة و الشعارات التي كانوا يرفعونها في أروقة الجامعة منذ 40 سنة على الأقل قد تعفّنت و لم تعد تصلح للإثارة و لا للتجارة و أن لا مستقبل واضح إلا للإسلام العظيم، و إنّ العالم كلّه اليوم يسير نحو الإسلام رغم التّكالب الأممي و التّآمر الدّولي عليه، فإن كانوا غير شاعرين فتلك مصيبة و إن كانوا شاعرين فالمصيبة أعظم.

يقول الله تعالى لعباده المؤمنين : " اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا ".



و معنى الدّين في الإسلام المنظومة الكاملة التي تحتوي على العقائد و الأخلاق و العبادات و المعاملات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسيّة و كلّ مظاهر و فنون الحياة، يعني أنّ حياتنا كلّها إسلام و لا يجب أن تخرج عن الإسلام، هذا ما يؤمن به و يعتقده مليار و نصف من البشر منهم مئتا مليون مسلم بأندونسيا و ستّة ملايين مسلم بفرنسا.

و لعلّكم أيّها اللائكيون لم تأخذوا الدّرس و العبرة من تركيا اللائكية بامتياز كيف عادت إلى إسلامها من جديد و بدأت تتخلى بمحض إرادتها و باختيار شعبها عن لائكية كمال أتاتورك البغيضة التي فرضت عليها بقوّة الحديد و النار، يحصل هذا في جوّ من الحرية و الديمقراطية و بعيدا عن تدخل العسكر، فإذا كان شأن تركيا العلمانية هكذا فكيف بمصر و ليبيا و تونس و الجزائر و المغرب و موريطانيا ؟



لقد ارتضى الله سبحانه الإسلام دينا لعباده، و سيبقى الإسلام الدين الظاهر و القوي و المنتصر على الدوام لأنه دين الرحمة و العدل و الأخوّة و المساواة و دين الأخلاق الفاضلة و القيم النبيلة، و لأنه قابل للتطبيق على جميع المستويات: المستوى الفردي و الأسري و الجماعي و الدولي و لأنه يدخل للعقول قبل القلوب و لأنه يمتاز بالمرونة و البساطة و يتكيف مع جميع الظروف و الأزمنة، إنه دين قابل للنجاح و التطبيق. إنه دين الله في الأرض. فكيف تريدون منّا أيها العلمانيون أن نتخلّى عن ديننا. عن شريعة ربّنا بهذه السذاجة و بهذه الأوهام التي تنادي بإزاحة الدين عن المجتمع و بفصل الدين عن الحياة أو الدولة ؟ !. إنكم في دولة إسلامية و لستم في دولة أوروبية حتى ترفعوا هذا الشعار البائس. و اعلموا جيدا أن من ينادي بفصل الدين عن الحياة بمثابة من يعلن الحرب على الله و على الإسلام. و أن تونس التي أنجبت الإمام سحنون و أسد ابن الفرات و طارق بن زياد و عبد الرحمان ابن خلدون و الطاهر بن عاشور و عبد الرحمان خليف و التهامي نقرة. و الزعيم عبد العزيز الثعالبي و الزعيم الحبيب ثامر و الزعيم صالح بن يوسف و الزعيمين علي البهلوان و فرحات حشاد من قادة الحركة الوطنية و النقابية، إن تونس خير الدين باشا و الفاضل بن عاشور و غيرهم من العباقرة ليست مستعدة لكن تنقلب على نفسها و تتنكّر لذاتها و تنفصل عن أمّتها و تتجرّد من هوّيتها لمجرّد نزوة من النزوات الفكرية الطائشة التي أصابت بعض المراهقين السياسيّن. إن تونس العروبة و الإسلام، إن تونس العزّة و الكرامة و الإباء، ليست حقل تجارب للفلسفات المزيفة و الإيديولوجيات الغربية المستوردة و التي فشلت في عقر دارها و في مهدها، و ما الإتحاد السوفياتي منا ببعيد و ما ألبانيا أنور خوجة و أوروبا الشرقية وتركيا أتا تورك منا ببعيدة، و من أراد أن يجرّب نظريّته التي تقوم على معاداة الإسلام و مهاجمة الدّين بطرق مباشرة أو ملتوية متغلّفة بشعار الحداثة و الديمقراطية و العصرنة و التقدّمية و المواطنة و حقوق الإنسان فليجرّب و ليجحذ سيفه و ليفكّر ألف مرّة قبل أن يدخل معركة خاسرة أو مغامرة انتحارية فاشلة، إنني كإنسان تونسي عربي و مسلم، أومن بحق الغير في اعتقاداته و اختياراته و أؤمن بالتعدديّة الفكرية و السياسية و حقوق الإنسان، و لكنّ إيماني هذا لا يمنعني من الدفاع عن معتقد الأمة و الشعب بالطرق السلمية و المشروعة كالحوار و الجدال و النقاش و المنطق و العقل و العلم في جو من الحرية، و لا يمكن أن نصمت إزاء حملات التشويه و المغالطة و السبّ الرخيص التي يتعرّض لها الدين الحنيف و الشرع الحكيم من قبل اللائكيّين أحفاد نيتشه و داروين و ماركس و لينين، ليكن في علم هؤلاء أن الإسلام خط أحمر في تونس و أن المساس من قدسيته هو لعب بالنار، و السّــــلام.

الأستاذ: حافظ بن شلبية الأكودي .

كاتب و شاعر و مفكّر إسلامي.

don't forget to share this post to your friends on facebook