| ]

يقول المثل الشعبي التّونسي "حينما تسقط البقرة تكثر حولها السكاكين"، وحينما سقط بن علي وفرّ هاربا تحوّل العديد ممن كانوا إلى الأمس القريب من أبواق نظامه ومن المناشدين له على الترشّح لمنصب الرئاسة إلى أبد الآبدين، إلى زعماء ثورة.




 وها هم اليوم يكتشفون في دخائل أنفسهم نفَسا ثوريّا، وأبعادا ديمقراطيّة، فتراهم قفزوا فجأة، كقردة السيرك على المنصات، باسم المحافظة على البلاد من الفوضى والخراب، وقد أعماهم نفاقهم وتملّقهم على عقدين من الفوضى المنظمة ومن النهب ذو النسق الصناعي. هؤلاء هم من سارعوا اليوم إلى تشكيل ما سموه حكومة ائتلاف وطني، ويعلم الله في أيّ بقاع الأرض شكّلت هذه الحكومة. 








يكفي التأمّل في تشكيلتها لتدرك بلا عنت مصدرها وبواعثها والخيط الرّفيع الذي يجمع بين عناصرها وإن ادّعى بعضهم انتماءه إلى المعارضة الراديكاليّة، والبعض الآخر نظافة اليد. في إحدى تصريحاته على إحدى القنوات ذكر محمد الغنوشي أنّ حكومته سوف تكون منفتحة على الجميع فيما عدى من لا يؤمنون بالحداثة!


 يا عيني... (من المرسى بدا يقذّف). وكذلك جاءت إشارات من خلال بعض برامج قناة نسمة تيفي المشبوهة في نفس السياق (الفزّاعة الإسلاميّة).  


 المهمّ أنّ المتأمّل في مجريات الأحداث يخرج بخلاصة مفادها أنّ الشرّ كلّ الشرّ تجسّد في شخص بن علي وفي محيطه العائلي القريب. كلاّ وألف كلاّ! صحيح أنّ بن علي قام بالإنقلاب على بورقيبة وأسّس نظاما ديكتاتوريا فاسدا، ولكنّه نجح بدون جهد كبير، وعلى مدى 23 عاما، في تجنيد بطانة سوء جاءته مهرولة من كلّ فجّ عميق، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين. كانت هذه البطانة هي التي هيكلت نظامه، وصاغت له إيديولوجيا "العهد الجديد" وثقافته، التي عانينا من رداءتها وعنفها وفسادها الويلات، وابتسمْ إنّها تونس!   


هذه البطانة لم تكن عصابة صغيرة من الأفراد، بل جيش جرّار من التكنوقراط، والأقلام الصحفيّة والأدبيّة، والصحافة المسموعة والمرئيّة، ومن المثقّفين ومن الفنّانين، ومن الساسة المعارضين منهم والموالين، ومن النقابيين ومن الأئمّة ومن الوعاظ  ومن الديبلوماسيين ومن الأمن طبعا.


 هؤلاء جميعا يريدون اليوم إقناعنا بأنّ بن علي كان يدير وحده مقاليد الحكم، وكان وعائلته وحدهم أرباب الفساد... هل يُعقل هذا؟ 


والأغرب أنّهم سارعوا إلى القفز على ثورة الشّعب، بل وحجّموا هذه الثورة وقزّموها واختزلوها في "احتجاجات" وفي "ثورة ياسمين" في أحسن الأحوال، بالرغم من أعداد الشهداء والجرحى والثكالى.  


 ها هم الآن في مسعاهم إلى "إنقاذ البلاد من الفوضى"، و"المحافظة على مؤسّسات الدولة"،و... و... و... يقتلون بعلم أو بحسن نيّة الفرخ في البيضة، ويئدون الثورة وهي في عزّ عنفوانها، ويحرمون شعب تونس العظيم من تذوّق حلاوة صنع التّاريخ... وهم في ذلك، من حيث علموا أو لم يعلموا، يخدمون أجندات ومصالح تتجاوز حدود تونس بكثير.


 وهم في نهاية الأمر مجرّد بيادق، مثلهم في هذا كمثل بن علي نفسه، ُيلقى به بعد ما نفدت صلاحيته كالكليناكس.


  لا بدّ لشعبنا ولنخبه الشريفة التفطّن إلى هذه اللعبة الشيطانية التي تسعى إلى احتواء الثورة التونسيّة وتقويضها من الدّاخل، حتّى تفشل وتذهب ريحها، كما وقع إفشالها سنة 1864، وسنة 1956، وسنة 1987... سيكون لهذه الثورة الشعبية الجماهيرية الديمقراطيّة انعكاسات خطيرة وتاريخيّة لا على تونس والمنطقة العربيّة فحسب بل على العالم وتوازناته، ولستُ والله مبالغا.


تونس اليوم أمام مفترق طرق: إمّا أن تدكّ وتقتحم أبواب التاريخ وإمّا أن تتسللّ عبر الأنفاق الموبوءة المظلمة.




فيا ليت شعبي يختار حياة الكرام وموت العظام، فيكون بذلك قد أوفى بما عليه من واجب تجاه شهدائنا الأبرار، وحقّق الآمال التي تختلج في صدور كلّ الأحرار
don't forget to share this post to your friends on facebook